فصل: رابعاً: من أسلم على أكثر من أربع نسوة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تخذيل

التّعريف

1 - التّخذيل لغةً‏:‏ حمل الرّجل على خذلان صاحبه، وتثبيطه عن نصرته، يقال‏:‏ خذلته تخذيلاً‏:‏ حملته على الفشل وترك القتال‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ صدّ النّاس عن الغزو وتزهيدهم في الخروج إليه‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

2 - يحرم تخذيل المجاهدين عن الجهاد بأيّ وسيلة حصل من قول أو فعل‏.‏ قال اللّه تعالى في ذمّ المخذّلين‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ المُعَوِّقين منكم والقائلينَ لإِخوانِهم هَلُمَّ إلينا ولا يَأْتُونَ البَأْسَ إلاّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏ وقال أيضاً في شأن المنافقين‏:‏ ‏{‏فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهم خِلافَ رسولِ اللّهِ وكَرِهُوا أنْ يُجَاهِدُوا بأموالِهم وأَنفسِهم في سبيلِ اللّهِ وقالوا لا تَنْفِروا في الحَرِّ قلْ نارُ جهنَّمَ أشدُّ حَرَّاً لو كانوا يَفْقَهُون‏}‏‏.‏

استصحاب المخذّل والمرجف

3 - لا يستصحب الأمير معه مخذّلاً، وهو الّذي يثبّط النّاس عن الغزو ويزهّدهم في الخروج إلى القتال والجهاد، مثل أن يقول‏:‏ الحرّ أو البرد شديد، والمشقّة شديدة، ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا‏.‏ ولا مرجفاً وهو الّذي يقول‏:‏ قد هلكت سريّة المسلمين، وما لهم مدد ولا طاقة لهم بالكفّار، والكفّار لهم قوّة ومدد وصبر، ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا، ولا من يعين على المسلمين بالتّجسّس للكفّار وإطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم، ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعدُّوا له عُدَّةً ولكن كَرِهَ اللّهُ انْبِعَاثَهم فَثَبَّطَهم وقيل اقعُدُوا مع القَاعِدين لو خَرَجُوا فيكم ما زَادُوكم إلاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكم الفِتْنَةَ‏}‏ ولأنّ هؤلاء مضرّة على المسلمين فيلزمه منعهم، وإن خرج معه أحد هؤلاء لم يسهم له ولم يرضخ وإن أظهر عون المسلمين، لأنّه يحتمل أن يكون أظهره نفاقاً وقد ظهر دليله، فيكون مجرّد ضرر فلا يستحقّ ممّا غنموا شيئاً‏.‏

وإن كان الأمير أحد هؤلاء لم يستحبّ الخروج معه، لأنّه إذا منع خروج المخذّل ومن في حكمه تبعاً فمتبوعاً أولى، ولأنّه لا تؤمن المضرّة على من صحبه‏.‏

تخريب

انظر‏:‏ جهاد‏.‏

تخريج المناط

التّعريف

1 - التّخريج والاستخراج بمعنًى واحد كالاستنباط والمناط‏:‏ موضع التّعليق‏.‏

ومناط الحكم عند الأصوليّين‏:‏ علّته‏.‏

وتخريج المناط هو‏:‏ النّظر والاجتهاد في إثبات علّة الحكم، إذا دلّ النّصّ أو الإجماع على الحكم دون علّته، وذلك أن يستخرج المجتهد العلّة برأيه‏.‏ كالاجتهاد في إثبات كون الشّدّة المطربة علّةً لتحريم شرب الخمر، وكون القتل العمد العدوان علّةً لوجوب القصاص في المحدّد، وكون الطّعم علّة ربا الفضل في البرّ ونحوه حتّى يقاس عليه كلّ ما سواه في علّته

الألفاظ ذات الصّلة

المناسبة‏:‏

2 - وهي‏:‏ تعيين العلّة بإبداء وجود العلاقة بين الوصف والحكم، بحيث يدركه العقل السّليم مع السّلامة من القوادح‏.‏ ويسمّى استخراج المناسبة‏:‏ تخريج المناط‏.‏

وبذلك يكون تخريج المناط أعمّ من المناسبة، إذ قد يكون باستخراج المناسبة أو بغيرها‏.‏

الحكم الإجماليّ

3 - عدّ بعض الأصوليّين تخريج المناط مسلكاً من مسالك العلّة، إذ هو اجتهاد في استخراجها، لكنّه يعتبر في الرّتبة دون تحقيق المناط وتنقيحه‏.‏

ولذلك اختلف الأصوليّون في الأخذ به، فأنكره أهل الظّاهر والشّيعة وطائفة من المعتزلة البغداديّين، وقال الغزاليّ عنه‏:‏ العلّة المستنبطة عندنا لا يجوز التّحكّم بها، بل قد تعلم بالإيماء وإشارة النّصّ فتلحق بالمنصوص، وقد تعلم بالسّبر‏.‏‏.‏ إلخ ثمّ قال‏:‏ وكلّ ذلك قريب من القسمين الأوّلين ‏(‏تحقيق المناط وتنقيحه‏)‏ والقسم الأوّل ‏(‏تحقيق المناط‏)‏ متّفق عليه، والثّاني ‏(‏تنقيح المناط‏)‏ مسلّم من الأكثرين‏.‏ وتفصيل ذلك ينظر في الملحق الأصوليّ‏.‏

تخصّر

التّعريف

1 - للتّخصّر في اللّغة معان، منها‏:‏ أنّه وضع اليد على الخصر، ومثله الاختصار‏.‏ والخصر من الإنسان‏:‏ وسطه وهو المستدقّ فوق الوركين، والجمع خصور، مثل فلس وفلوس‏.‏ والخصران والخاصرتان‏:‏ معروفان‏.‏

والاختصار والتّخصّر‏:‏ أن يضع الرّجل يده على خصره في الصّلاة أو غيرها من الاتّكاء على المخصرة، وهي‏:‏ ما يتوكّأ عليه من عصاً ونحوها‏.‏ وفي رواية عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه نهى أن يصلّي الرّجل مختصراً ومتخصّراً»‏.‏

قيل‏:‏ هو من المخصرة، وقيل‏:‏ معناه أن يصلّي الرّجل وهو واضع يده على خاصرته، وجاء في الحديث‏:‏ «الاختصار في الصّلاة راحة أهل النّار» أي أنّه فعل اليهود في صلاتهم‏.‏ وهم أهل النّار قال ابن منظور‏:‏ ليس الرّاحة المنسوبة لأهل النّار هي راحتهم في النّار، إذ لا راحة لهم فيها، وإنّما هي راحتهم في صلاتهم في الدّنيا‏.‏ يعني أنّه إذا وضع يده على خصره كأنّه استراح بذلك، وسمّاهم أهل النّار لمصيرهم إليها، لا لأنّ ذلك راحتهم في النّار‏.‏ وهو‏:‏ أي التّخصّر في الاصطلاح لا يخرج عن ذلك‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ التّخصّر في الصّلاة مكروه، أي تنزيهاً‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه مكروه تحريماً، لمنافاته هيئة الصّلاة المأثورة، والتّشبّه بالجبابرة، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏.‏ روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى أن يصلّي الرّجل مختصراً» وعنه رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الخصر في الصّلاة» والمراد وضع اليد على الخاصرة‏.‏ وفي رواية‏:‏ «نهى أن يصلّي الرّجل متخصّراً» - بتشديد الصّاد - وهو أن يضع يده على خاصرته - وهو يصلّي - ما لم تكن به حاجة تدعو إلى وضعها‏.‏ فإن كان به عذر كمن وضع يده على خاصرته لوجع في جنبه أو تعب في قيام اللّيل، فتخصّر، جاز له ذلك في حدود ما تقتضي به الحاجة، ويقدّر ذلك بقدرها‏.‏

وفيه ورد حديث‏:‏ «المتخصّرون يوم القيامة على وجوههم النّور»‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ أي المصلّون باللّيل، فإذا تعبوا وضعوا أيديهم على خواصرهم‏.‏ وتابعه صاحب القاموس ففسّر الحديث بغير ذلك‏.‏ وروى أبو داود والنّسائيّ من طريق سعيد بن زياد قال‏:‏ «صلّيت إلى جنب ابن عمر فوضعت يديّ على خاصرتيّ‏.‏ فلمّا صلّى قال‏:‏ هذا‏.‏ الصّلب في الصّلاة، وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينهى عنه»‏.‏

وأمّا التّخصّر خارج الصّلاة فقد جاء في تنوير الأبصار وشرحه‏:‏ أنّه مكروه تنزيهاً‏.‏

لأنّه فعل المتكبّرين ‏(‏ر‏:‏ الصّلاة‏:‏ مكروهات الصّلاة‏)‏‏.‏

وأمّا الاختصار بمعنى الاتّكاء في الصّلاة على المخصرة أو غيرها فقد سبق تفصيل حكمه في مصطلح ‏(‏استناد‏)‏‏.‏

الاتّكاء على المخصرة ونحوها في خطبة الجمعة

3 - توكّؤ الخطيب على المخصرة في حال خطبة الجمعة مندوب عند المالكيّة، وهو أيضاً من سنن الخطبة عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ويجعلها بيمينه عند المالكيّة، ويستحبّ عند الشّافعيّة أن يجعلها في يده اليسرى كعادة من يريد الضّرب بالسّيف والرّمي بالقوس، ويشغل يده اليمنى بحرف المنبر‏.‏

وجاء في كشّاف القناع من كتب الحنابلة‏:‏ أن يجعلها بإحدى يديه، إلاّ أنّ صاحب الفروع ذكر أنّه يتوجّه باليسرى ويعتمد بالأخرى على حرف المنبر، فإن لم يجد شيئاً يعتمد عليه، فقد ذكر الشّافعيّة أنّه يجعل اليمنى على اليسرى أو يرسلهما ولا يعبث بهما‏.‏

وذهب الحنفيّة - كما جاء في الفتاوى الهنديّة - إلى كراهة اتّكاء الخطيب على قوس أو عصاً في أثناء الخطبة من يوم الجمعة، وإنّما يتقلّد الخطيب السّيف في كلّ بلدة فتحت به‏.‏ ومثل العصا عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ القوس والسّيف، والعصا أولى من القوس والسّيف عند المالكيّة، والمراد بالقوس كما جاء في الدّسوقيّ قوس النّشاب، وهي القوس العربيّة لطولها واستقامتها، لا العجميّة لقصرها وعدم استقامتها‏.‏

واستدلّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على ما ذهبوا إليه من اتّكاء الخطيب على المخصرة في حال الخطبة من يوم الجمعة بما رواه أبو داود عن الحكم بن حزن‏:‏ قال‏:‏ «وفدت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكّئاً على سيف أو قوس أو عصا مختصراً»‏.‏ قال مالك‏:‏ وذلك ممّا يستحبّ للأئمّة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصا، يتوكّئون عليها في قيامهم، وهو الّذي رأينا وسمعنا‏.‏

تخصيص

التّعريف

1 - تخصيص الإنسان بالشّيء‏:‏ تفضيله به على غيره‏.‏

وفي اصطلاح جمهور الأصوليّين يطلق على‏:‏ قصر العامّ على بعض ما يتناوله بدليل يدلّ على ذلك، سواء أكان هذا الدّليل مستقلاً أم غير مستقلّ، مقارناً أم غير مقارن‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ قصر العامّ على بعض أفراده بدليل مستقلّ مقارن، فخرج الاستثناء والصّفة ونحوهما، لأنّ القصر حصل فيما ذكر بدليل غير مستقلّ‏.‏ وخرج النّسخ، لأنّه قصر بدليل غير مقارن‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - النّسخ‏:‏

2 - النّسخ هو‏:‏ الرّفع والإزالة‏.‏

وفي اصطلاح الأصوليّين‏:‏ رفع الشّارع الحكم المتقدّم بحكم متأخّر بدليل يدلّ على ذلك‏.‏ فالفرق بين النّسخ وبين التّخصيص‏:‏ أنّ التّخصيص ليس فيه رفع للحكم، وأمّا النّسخ فهو رفع الحكم بعد ثبوته‏.‏ والتّخصيص قصر بدليل مقارن عند الحنفيّة، والنّسخ فيه تراخ‏.‏

ب - التّقييد‏:‏

3 - التّقييد‏:‏ تقليل شيوع اللّفظ المطلق باقترانه بلفظ آخر يدلّ على تقييده بشرط أو صفة أو حال أو نحو ذلك‏.‏ ومثاله لفظ ‏"‏ رجل ‏"‏ إذا اقترن بلفظ ‏"‏ مؤمن ‏"‏ مثلاً، وقيل‏:‏ رجل مؤمن، فإنّ لفظ ‏"‏ رجل ‏"‏ مطلق وهو شائع ومنتشر في كلّ ما يصدق عليه معناه، وهو أي ذكر بالغ من نوع الإنسان، مؤمناً كان أو غير مؤمن، ولمّا اقترن به لفظ ‏"‏ مؤمن ‏"‏ قلّل من شيوعه وانتشاره، وجعله مقصوراً على من كان مؤمناً دون غيره‏.‏

فالتّقييد إنّما يكون للألفاظ المطلقة، ليقلّل من شيوعها وانتشارها فيما يصدق عليه معناها، ويجعلها مقصورةً على ما يوجد فيه القيد دون ما عداه‏.‏

أمّا التّخصيص‏:‏ فإنّه يكون في الألفاظ العامّة، ليقلّل من شمولها ويقصرها على بعض ما يصدق عليه معناها دون بعضها الآخر‏.‏

ج - الاستثناء‏:‏

4 - الاستثناء‏:‏ إخراج من متعدّد بإلاّ أو إحدى أخواتها‏.‏ أو هو المنع من دخول بعض ما يتناوله صدر الكلام في حكمه بإلاّ أو إحدى أخواتها‏.‏

والاستثناء نوع من المخصّصات للعامّ عند جمهور الأصوليّين، وليس مخصّصاً للعامّ عند الحنفيّة، وإنّما هو قاصر للعامّ على بعض أفراده‏.‏

الحكم الإجماليّ

5 - التّخصيص جائز عقلاً وواقع استقراءً، ويجوز التّخصيص إلى واحد، إذا لم يكن لفظ العامّ جمعاً، وإلى أقلّ الجمع إذا كان جمعاً‏.‏

ويجوز التّخصيص بالعقل عند الحنفيّة كما يجوز باللّفظ‏.‏

واختلف الأصوليّون في أنّ العامّ بعد التّخصيص يبقى عامّاً في الباقي بطريق الحقيقة أم يصير مجازاً ‏؟‏ والأشبه أنّه حقيقة في البعض الباقي، وهذا رأي الحنابلة وكثير من الحنفيّة والشّافعيّة، وقيّده بعضهم بأن كان الباقي غير منحصر، وبعضهم بقيود أخرى‏.‏

قال البزدويّ‏:‏ من شرط في العامّ الاجتماع دون الاستغراق قال‏:‏ إنّه يبقى حقيقةً في العموم بعد التّخصيص، ومن قال‏:‏ شرطه الاستيعاب والاستغراق قال‏:‏ يصير مجازاً بعد التّخصيص، وإن خصّ منه فرد واحد‏.‏

وهل يبقى العامّ حجّةً بعد التّخصيص أم لا ‏؟‏ قال أكثر الأصوليّين، وهو الصّحيح في مذهب الحنفيّة‏:‏ إنّ العامّ يبقى حجّةً بعد التّخصيص، معلوماً كان المخصوص أو مجهولاً‏.‏ وبعضهم قيّد حجّيّته بما إذا كان المخصوص معلوماً لا مجهولاً‏.‏ وقال الكرخيّ‏:‏ لا يبقى حجّةً أصلاً، وهو قول أبي ثور من الشّافعيّة‏.‏ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

تخطّي الرّقاب

التّعريف

1 - يقال في اللّغة‏:‏ تخطّى النّاس واختطاهم أي‏:‏ جاوزهم‏.‏ ويقال‏:‏ تخطّيت رقاب النّاس إذا تجاوزتهم‏.‏ قال ابن المنير‏:‏ التّفرقة بين اثنين المنهيّ عنها بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فلم يفرِّق بين اثنين» تتناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه‏.‏

وقد يطلق على مجرّد التّخطّي‏.‏ وفي التّخطّي زيادة رفع رجليه على رءوسهما أو أكتافهما، وربّما تعلّق بثيابهما شيء ممّا في رجليه‏.‏ ولا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا‏.‏

حكمه الإجماليّ

2 - لتخطّي الرّقاب أحكام تختلف باختلاف حالاته‏.‏

ففي الجمعة إمّا أن يكون المتخطّي هو الإمام أو غيره‏.‏

فإن كان المتخطّي هو الإمام، ولم يكن له طريق إلاّ أن يتخطّى رقاب النّاس ليصل إلى مكانه، جاز له ذلك بغير كراهة، لأنّه موضع حاجة‏.‏

وإن كان غير الإمام‏:‏ فعند الحنفيّة‏:‏ إمّا أن يكون دخوله المسجد قبل أن يشرع الإمام في الخطبة أو بعد الشّروع فيها‏.‏

فإن كان قبله‏:‏ فإنّه لا بأس بالتّخطّي إن كان لا يجد إلاّ فرجةً أمامه، فيتخطّى إليها للضّرورة، ما لم يؤذ بذلك أحداً، لأنّه يندب للمسلم أن يتقدّم ويدنو من المحراب إذا لم يكن أثناء الخطبة، ليتّسع المكان لمن يجيء بعده، وينال فضل القرب من الإمام‏.‏

فإذا لم يفعل الأوّل ذلك فقد ضيّع المكان من غير عذر، فكان للّذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان وإن كان دخوله المسجد والإمام يخطب‏:‏ فإنّ عليه أن يستقرّ في أوّل مكان يجده، لأنّ مشيه في المسجد وتقدّمه في حالة الخطبة منهيّ عنه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فلم يفرّق بين اثنين» وقوله‏:‏ «ولم يتخطّ رَقَبَةَ مسلم، ولم يؤذ أحداً» وقوله «للّذي جاء يتخطّى رقاب النّاس‏:‏ اجلس‏:‏ فقد آذيت وآنيت»‏.‏

وعند المالكيّة يجوز لداخل المسجد أن يتخطّى الصّفوف لفرجة قبل جلوس الخطيب على المنبر، ولا يجوز التّخطّي بعده ولو لفرجة‏.‏

وقد نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على أنّه إن لم يكن للدّاخل موضع وبين يديه فرجة لا يصل إليها إلاّ بتخطّي رجل أو رجلين لم يكره له ذلك، لأنّه يسير‏.‏ وإن كان بين يديه خلق كثير، فإن رجا إذا قاموا إلى الصّلاة أن يتقدّموا جلس حتّى يقوموا، وإن لم يرج أن يتقدّموا جاز أن يتخطّى ليصل إلى الفرجة، لأنّه موضع حاجة، وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد، وفي رواية أخرى أنّ للدّاخل إذا رأى فرجةً لا يصل إليها إلاّ بالتّخطّي جاز له ذلك‏.‏

3 - وإذا جلس في مكان، ثمّ بدت له حاجة أو احتاج الوضوء فله الخروج ولو بالتّخطّي‏.‏ «قال عقبة‏:‏ صلّيت وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلّم، ثمّ قام مسرعاً فتخطّى رقاب النّاس إلى بعض حجر نسائه، فقال‏:‏ ذكرت شيئاً من تِبْرٍ عندنا، فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته» فإذا قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام من مجلسه ثمّ رجع إليه فهو أحقّ به» وحكمه في التّخطّي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجةً على نحو ما مرّ‏.‏

4 - ويجوز التّخطّي بعد الخطبة وقبل الصّلاة، ولو لغير فرجة، كمشي بين الصّفوف ولو حال الخطبة‏.‏ قال به المالكيّة‏.‏ والتّخطّي للسّؤال كرهه الحنفيّة، فلا يمرّ السّائل بين يدي المصلّي، ولا يتخطّى رقاب النّاس، ولا يسأل النّاس إلحافاً إلاّ إذا كان لأمر لا بدّ منه‏.‏

ويجوز تخطّي رقاب الّذين يجلسون على أبواب المساجد حيث لا حرمة لهم، على ما هو المشهور عند الحنابلة‏.‏

5 - ويكره التّخطّي في غير الصّلاة من مجامع النّاس بلا أذًى، فإن كان فيه أذًى حرم‏.‏

6 - ويحرم إقامة شخص، ولو في غير المسجد، ليجلس مكانه، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يقيم الرّجل الرّجل من مجلسه، ثمّ يجلس فيه ولكن يقول تفسّحوا وتوسّعوا» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سَبَق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له» وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرّجل من مجلسه، ثمّ يجلس مكانه‏.‏ فإن قعد واحد من النّاس في موضع من المسجد، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتّى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي الزّبير عن جابر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثمّ ليخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول‏:‏ افسحوا» قال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تَفَسَّحُوا في المجالسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللّهُ لكم‏}‏ فإن قام رجل وأجلسه مكانه باختياره جاز له أن يجلس‏.‏

وأمّا صاحب الموضع فإنّه إن كان الموضع الّذي ينتقل إليه مثل الأوّل في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان الموضع الّذي انتقل إليه دون الّذي كان فيه في القرب من الإمام كره له ذلك، لأنّه آثر غيره في القربة، وفيه تفويت حظّه‏.‏

7 - وإذا أمر إنسان إنساناً أن يبكّر إلى الجامع فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي أنّ ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة، فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه‏.‏

تخفيف

انظر‏:‏ تيسير‏.‏

تخلّل

انظر‏:‏ تخليل‏.‏

تخلّي

انظر‏:‏ قضاء الحاجة‏.‏

تخليل

التّعريف

1 - التّخليل لغةً يأتي بمعان، منها‏:‏ تفريق شعر اللّحية وأصابع اليدين والرّجلين، يقال‏:‏ خلّل الرّجل لحيته‏:‏ إذا أوصل الماء إلى خلالها، وهو البشرة الّتي بين الشّعر‏.‏

وأصله من إدخال الشّيء في خلال الشّيء، وهو وسطه‏.‏ ويقال‏:‏ خلّل الشّخص أسنانه تخليلاً‏:‏ إذا أخرج ما يبقى من المأكول بينها‏.‏ وخلّلت النّبيذ تخليلاً‏:‏ جعلته خلاً‏.‏

ويستعمل الفقهاء كلمة التّخليل بهذه المعاني اللّغويّة‏.‏

أحكام التّخليل بأنواعه

أوّلاً‏:‏ التّخليل في الطّهارة

أ - تخليل الأصابع في الوضوء والغسل‏:‏

2 - إيصال الماء بين أصابع اليدين والرّجلين بالتّخليل أو غيره من متمّمات الغسل، فهو فرض في الوضوء والغسل عند جميع الفقهاء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاغْسِلُوا وجوهَكم وأَيدِيَكم إلى المَرَافِقِ وامْسَحُوا برءوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبينِ‏}‏‏.‏

أمّا التّخليل بعد دخول الماء خلال الأصابع، فعند جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ أنّ تخليل الأصابع في الوضوء سنّة، «لقوله صلى الله عليه وسلم لِلَقِيط بن صبرة‏:‏ أسبغ الوضوء، وخلّل بين الأصابع»، وقد صرّح الحنفيّة بأنّه سنّة مؤكّدة، والحنابلة يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين آكد، وعلّلوا استحباب التّخليل بأنّه أبلغ في إزالة الدّرن والوسخ من بين الأصابع‏.‏

وذهب المالكيّة في المشهور عندهم إلى وجوب التّخليل في أصابع اليدين واستحبابه في أصابع الرّجلين، وقالوا‏:‏ إنّما وجب تخليل أصابع اليدين دون أصابع الرّجلين لعدم شدّة التصاقها، فأشبهت الأعضاء المستقلّة، بخلاف أصابع الرّجلين لشدّة التصاقها، فأشبه ما بينها الباطن‏.‏ وفي القول الآخر عندهم‏:‏ يجب التّخليل في الرّجلين كاليدين‏.‏

ومراد المالكيّة بوجوب التّخليل إيصال الماء للبشرة بالدّلك‏.‏

3 - وكذلك يسنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الغسل عند الحنفيّة، وهو المفهوم من كلام الشّافعيّة والحنابلة، حيث ذكروا في بيان الغسل الكامل المشتمل على الواجبات والسّنن أن يتوضّأ كاملاً قبل أن يحثو على رأسه ثلاثاً، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثمّ يتوضّأ كما يتوضّأ للصّلاة» وقد سبق أنّ تخليل الأصابع سنّة عندهم في الوضوء،فكذلك في الغسل‏.‏ وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى وجوب تخليل أصابع الرّجلين كأصابع اليدين في الغسل،لأنّه يتأكّد فيه المبالغة على خلاف ما قالوا في الوضوء من استحباب تخليل أصابع الرّجلين‏.‏

ب - تخليل الأصابع في التّيمّم‏:‏

4 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ مسح الوجه واليدين فرض في التّيمّم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَامْسَحُوا بِوجُوهِكُم وأَيْدِيْكُم منه‏}‏‏.‏

كذلك يجب تعميم واستيعاب محلّ الفرض بغير خلاف بين المذاهب الأربعة، ولهذا صرّحوا بوجوب نزع الخاتم والسّوار إذا كانا ضيّقين يخشى عدم وصول الغبار إلى ما تحتهما، حتّى إنّ المالكيّة قالوا بوجوب نزع الخاتم، ولو كان واسعاً، وإلاّ كان حائلاً‏.‏ وعلى ذلك يجب تخليل أصابع اليدين في التّيمّم إن لم يدخل بينها غبار، أو لم تمسح باتّفاق الفقهاء‏.‏

أمّا تخليل أصابع اليدين بعد مسحهما، فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة باستحبابه احتياطاً، وهو عند الشّافعيّة إن فرّق أصابعه في الضّربتين، فإن لم يفرّقها فيهما، أو فرّقها في الأولى دون الثّانية وجب التّخليل‏.‏ ويفهم من كلام الحنفيّة ما يوافق ما صرّح به الشّافعيّة والحنابلة، حيث قيّد الحنفيّة وجوب التّخليل بعدم وصول الغبار إلى الأصابع‏.‏

وذهب المالكيّة في الرّاجح عندهم إلى أنّه يلزم تعميم يديه لكوعيه مع تخليل أصابعه مطلقاً‏.‏

كيفيّة تخليل الأصابع

5 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّ تخليل أصابع اليدين يكون بالتّشبيك بينهما‏.‏

وقال المالكيّة والحنابلة‏:‏ يدخل أصابع إحداهما بين أصابع الأخرى، سواء أدخل من الظّاهر أو الباطن، ولا يكرهون التّشبيك في الوضوء‏.‏

وقال بعض المالكيّة بكراهة التّشبيك، مستدلّين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا توضّأ أحدكم في بيته، ثمّ أتى المسجد، كان في صلاة حتّى يرجع، فلا يفعل هكذا، وشبّك بين أصابعه»‏.‏

أمّا تخليل أصابع الرّجل، فيستحبّ فيه أن يبدأ بخنصر الرّجل اليمنى، ويختم بخنصر الرّجل اليسرى ليحصل التّيامن، وهو محلّ اتّفاق بين الفقهاء، لحديث المستورد بن شدّاد قال‏:‏ «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فخلّل أصابع رجليه بخنصره» ولما ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحبّ التّيامن في وضوئه» إلاّ أنّ الحنفيّة والحنابلة قالوا‏:‏ التّخليل يكون بخنصر يده اليسرى، لأنّها معدّة لإزالة الوسخ والدّرن من باطن رجليه، لأنّه أبلغ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يكون بخنصر يده اليمنى أو اليسرى‏.‏ وعند المالكيّة يكون بسبّابتيه‏.‏

ج - تخليل الشّعر‏:‏

- 1 - تخليل اللّحية‏:‏

6 - اللّحية الخفيفة - وهي الّتي تظهر البشرة تحتها ولا تسترها عن المخاطب - يجب غسل ظاهرها وإيصال الماء إلى ما تحتها في الوضوء والغسل، ولا يكفي مجرّد تخليلها بغير خلاف، وذلك لفرضيّة غسل الوجه بعموم الآية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاغْسِلُوا وجُوهَكم

‏.‏‏.‏‏.‏ الآية‏}‏‏.‏ أمّا اللّحية الكثيفة - وهي الّتي لا تظهر البشرة تحتها - فيجب غسل ظاهرها، ولو كانت مسترسلةً عند المالكيّة، وهو المشهور عند الشّافعيّة، وظاهر مذهب الحنابلة‏.‏ وعند الحنفيّة - وهو قول آخر للشّافعيّة، ورواية عند الحنابلة - أنّه لا يجب غسل ما استرسل من اللّحية، لأنّه خارج عن دائرة الوجه، فأشبه ما نزل من شعر الرّأس‏.‏

ولأنّ اللّه تعالى أمر بغسل الوجه، وهو ما تحصل به المواجهة، وفي اللّحية الكثيفة تحصل المواجهة بالشّعر الظّاهر‏.‏

أمّا باطنها فلا يجب غسله اتّفاقاً بين فقهاء المذاهب، لما روى البخاريّ «أنّه صلى الله عليه وسلم توضّأ فغسل وجهه، أخذ غرفةً من ماء فمضمض بها واستنشق، ثمّ أخذ غرفةً من ماء فجعل بها هكذا‏:‏ أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه» وكانت لحيته الكريمة كثيفةً، وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى باطنها غالباً، ويعسر إيصال الماء إليه‏.‏

7- ويسنّ تخليل اللّحية الكثيفة عند الحنفيّة، والشّافعيّة والحنابلة، لما روي عن أنس رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا توضّأ أخذ كفّاً من ماءٍ تحتَ حنكِه فخلَّلَ به لحيتَه، وقال‏:‏ هكذا أمرني ربِّي»‏.‏

وعند المالكيّة في تخليل شعر اللّحية الكثيفة ثلاثة أقوال‏:‏ الوجوب، والكراهة والاستحباب، أظهرها الكراهة لما في ذلك من التّعمّق‏.‏

8- أمّا في الغسل فلا يكفي مجرّد التّخليل، بل يجب إيصال الماء إلى أصول شعر اللّحية ولو كثيفةً اتّفاقاً بين المذاهب، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تحت كلّ شعرة جنابة، فاغسلوا الشّعر وأنقوا البشرة»‏.‏

ولكي يتأكّد من وصول الماء إلى أصول الشّعر ويتجنّب الإسراف قالوا‏:‏ يدخل المغتسل أصابعه العشر يروي بها أصول الشّعر، ثمّ يفيض الماء ليكون أبعد عن الإسراف في الماء‏.‏ ومن عبّر بوجوب تخليل اللّحية كالمالكيّة، أراد بذلك أيضاً إيصال الماء إلى أصول الشّعر‏.‏

- 2 - تخليل شعر الرّأس‏:‏

9 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب إرواء أصول شعر الرّأس في الغسل، سواء كان الشّعر خفيفاً أو كثيفاً، لما روت «أسماء رضي الله عنها أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن غسل الجنابة فقال‏:‏ تأخذ إحداكنّ ماءَها وسدرتَها فتطهِّر فتحسن الطّهور، ثمّ تصبّ على رأسها فتدلكه، حتّى تبلغ شؤون رأسها، ثمّ تفيض عليها الماء»، وعن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل به من النّار كذا وكذا»، قال عليّ‏:‏ فمن ثَمَّ عاديت شعري ‏"‏ وعلى ذلك فلا يجزي مجرّد تخليل الشّعر في الغسل عند الفقهاء‏.‏

وقد صرّح فقهاء المالكيّة بوجوب تخليل شعر الرّأس ولو كثيفاً، للتّأكّد من وصول الماء إلى أصوله، حيث قالوا‏:‏ ويجب تخليل شعر ولو كثيفاً وضغث مضفوره - أي جمعه وتحريكه - ليعمّه بالماء، وهو المعتمد عند الشّافعيّة‏.‏

ولا يختلف حكم الشّعر بالنّسبة للمحرم وغير المحرم عند جمهور الفقهاء، لكنّ المحرم يخلّل برفق لئلاّ يتساقط الشّعر‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يكره التّخليل للمحرم‏.‏

ثانياً‏:‏ تخليل الأسنان

10 - تنظيف الأسنان بالسّواك سنّة من سنن الفطرة، وينظر تفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏استياك‏)‏‏.‏

11 - أمّا تخليلها بعد الأكل بالخلال لإخراج ما بينها من الطّعام، فقد ذكره الفقهاء في آداب الأكل‏.‏ قال البهوتيّ الحنبليّ‏:‏ يستحبّ أن يخلّل أسنانه إن علق بها شيء من الطّعام، قال في المستوعب‏:‏ روي عن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ ترك الخلال يوهن الأسنان‏.‏ وروي‏:‏ «تخلّلوا من الطّعام، فإنّه ليس شيء أشدّ على الملكين أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاماً وهو يصلّي»‏.‏ قال الأطبّاء‏:‏ وهو نافع أيضاً للّثة ومن تغيّر النّكهة‏.‏

ولا يخلّل أسنانه في أثناء الطّعام، بل إذا فرغ‏.‏ ومثله ما ذكر في كتب سائر المذاهب‏.‏

ما تخلّل به الأسنان

12 - يسنّ التّخليل قبل السّواك وبعده، ومن أثر الطّعام، وكون الخلال من عود، ويكره بالحديد ونحوه، وبعود يضرّه كرمّان وآس، ولا يخلّل بما يجهله لئلاّ يكون ممّا يضرّه، وكذا ما يجرحه كما صرّح به الفقهاء‏.‏

ولا يجوز تخليل الأسنان أو الشّعر بآلة من الذّهب أو الفضّة، وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة، وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏آنية‏)‏‏.‏

واختلفت عبارات الفقهاء في جواز بلع ما يخرج من خلال الأسنان‏:‏ فقال الشّافعيّة والحنابلة، يلقي ما أخرجه الخلال، ويكره أن يبتلعه، وإن قلعه بلسانه لم يكره ابتلاعه كسائر ما بفمه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يجوز بلع ما بين الأسنان إلاّ لخلطه بدم، فليس مجرّد التّغيّر يصيّره نجساً خلافاً لما قيل‏.‏

ثالثاً‏:‏ تخليل الخمر

13 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إذا تخلّلت بغير علاج، بأن تغيّرت من المرارة إلى الحموضة وزالت أوصافها، فإنّ ذلك الخلّ حلال طاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نِعْمَ الأُدْمُ أو الإِدَامُ الخَلُّ»، ولأنّ علّة النّجاسة والتّحريم الإسكار، وقد زالت، والحكم يدور مع علّته وجوداً وعدماً‏.‏

وكذلك إذا تخلّلت بنقلها من شمس إلى ظلّ وعكسه عند جمهور الفقهاء‏:‏ الحنفيّة والمالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، وبه قال الحنابلة إذا كان النّقل لغير قصد التّخليل‏.‏

14 - واختلفوا في جواز تخليل الخمر بإلقاء شيء فيها، كالخلّ والبصل والملح ونحوه‏.‏ فقال الشّافعيّة والحنابلة، وهو رواية ابن القاسم عن مالك‏:‏ إنّه لا يحلّ تخليل الخمر بالعلاج، ولا تطهر بذلك، لحديث مسلم عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ «سُئِلَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الخمرِ تُتَّخذُ خلاً، قال‏:‏ لا»‏.‏

«ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بإهراقها»‏.‏ ولأنّ الخمر نجسة أمر اللّه تعالى باجتنابها، وما يلقى في الخمر يتنجّس بأوّل الملاقاة، وما يكون نجساً لا يفيد الطّهارة‏.‏

وصرّح الحنفيّة - وهو الرّاجح عند المالكيّة بجواز تخليل الخمر، فتصير بعد التّخليل طاهرةً حلالاً عندهم، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «نِعْمَ الإِدَامُ الخَلُّ» فيتناول جميع أنواعها، ولأنّ بالتّخليل إزالة الوصف المفسد وإثبات الصّلاح، والإصلاح مباح كما في دبغ الجلد، فإنّ الدّباغ يطهّره، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَيُّمَا إِهَاب دُبِغَ فقد طَهُرَ»‏.‏

وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏خمر‏)‏‏.‏

تخلية

التّعريف

1 - التّخلية لغةً‏:‏ مصدر خلّى، ومن معانيها في اللّغة‏:‏ التّرك والإعراض‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ تمكين الشّخص من التّصرّف في الشّيء دون مانع‏.‏ ففي البيع مثلاً إذا أذن البائع للمشتري في قبض المبيع مع عدم وجود المانع حصلت التّخلية، ويعتبر المشتري قابضاً للمبيع مطلقاً‏.‏

وتستعمل التّخلية أحياناً بمعنى الإفراج، كما يقولون‏:‏ يحبس القاتل ولا يخلّى بكفيل‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القبض‏:‏

2 - قبض الشّيء‏:‏ أخذه‏.‏ واستعمله الفقهاء بمعنى حيازة الشّيء والتّمكّن من التّصرّف فيه، فالفرق بين التّخلية والقبض من وجهين‏:‏

الأوّل‏:‏ أنّ التّخلية نوع من القبض، ويحصل القبض بأمور أخرى أيضاً، كالتّناول باليد والنّقل، وكذلك الإتلاف، فإذا أتلف المشتري المبيع في يد البائع مثلاً صار قابضاً له‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّ التّخلية تكون من قبل المعطي، والقبض من قبل الآخذ، فإذا خلّى البائع بين المبيع وبين المشتري برفع الحائل بينهما، حصلت التّخلية من البائع والقبض من المشتري‏.‏

ب - التّسليم‏:‏

3 - تسليم الشّيء‏:‏ إعطاؤه وجعله سالماً خالصاً، يقال‏:‏ سلّم الشّيء له أخلصه وأعطاه إيّاه، فهو قريب من التّخلية في المعنى، حتّى إنّ الأحناف قالوا‏:‏ التّسليم عندنا هو التّخلية‏.‏ والجمهور على أنّ التّخلية تسليم إذا كان المبيع عقاراً، أمّا في المنقول فبحسبه أو بالعرف، كما سيأتي‏.‏ والأصل أنّ التّخلية نوع من أنواع التّسليم، والقبض أثر لهما، فالتّسليم قد يكون بالنّقل والتّحويل، وقد يكون بالتّخلية، فإذا باع داراً مثلاً، وخلّى البائع بين المبيع وبين المشتري، برفع الحائل بينهما على وجه يتمكّن من التّصرّف فيه، أصبح البائع مسلّماً للمبيع والمشتري قابضاً له‏.‏

الأحكام الإجمالية للتخلية

4 - التخلية القبض في العقار اتفاقاً، وكذلك في بيع الثمر على الشجر عند الحنفية والشافعية، خلافاً للمالكية والحنابلة‏.‏

أما تخلية ما يمكن نقله من الأعيان فاختلفوا فيها‏:‏

قال الحنفية، وهو قول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة‏:‏ إن التخلية قبض حكماً مع القدرة عليه بلا كلفة، وذلك يختلف بحسب اختلاف المبيع، ففي نحو حنطة في بيت مثلاً دفع المفتاح إذا أمكنه الفتح بلا كلفة قبض، وفي نحو بقر في مرعى بحيث يرى ويشار إليه قبض، وفي نحو ثوب بحيث لو مدّ يده فتصل إليه قبض، وفي نحو فرس أو طير في بيت يمكن أخذه منه بلا معين قبض‏.‏

واشترط الحنفية لا عتبار التخلية قبضاً أن يقول البائع‏:‏ خليت بينك وبين المبيع، فلو لم يقله، أو كان بعيداً لم يصر قابضاً، والمراد به الإذن بالقبض، لا خصوص لفظ التخلية‏.‏

وقال الشافعية في المعتمد‏:‏ إن ما ينقل في العادة، كالأخشاب والحبوب ونحوها، فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب والكتاب فقبضه بالتناول‏.‏ وهو ما ذهب إليه الحنابلة‏.‏ فلا تكفي التخلية في المنقول عندهم‏.‏

وصرح المالكية بأن قبض العقار يكون بالتخلية للمشتري وتمكينه من التصرف فيه، بتسليم مفاتيحه إن كانت، وقبض غيره يكون حسب المتعارف بين الناس كحيازة الثوب واستلام مقود الدابة‏.‏

5 - وفي المواضع التي تعتبر التخلية فيها تسليماً وقبضاً ينتقل الضمان من ذمة المخلي إلى ذمة القابض، وهو يتحمل الخسارة، ففي عقد البيع مثلاً إذا حصل القبض بالتخلية بين المبيع والمشتري فالضمان على المشتري، لأن ضمان المبيع بعد القبض على المشتري بالاتفاق‏.‏ انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏ضمان‏)‏‏.‏

وزاد المالكية أن الضمان يحصل في البيع الصحيح بمجرد العقد، ولا يحتاج إلى القبض إلا في مواضع منها‏:‏ بيع الغائب والبيع الفاسد والبيع بالخيار، وبيع مافيه حق التوفية بالكيل أو الوزن أو العدد‏.‏ وهناك عقود لا تتم إلا بالقبض، كعقد الرهن والقرض والعارية والهبة ونحوها، مع تفصيل في بعضها، ففي هذه العقود إذا حصلت التخلية بشروطها، واعتبرت قبضاً، تم العقد وترتبت عليه آثاره‏.‏

وتفصيل هذه المسائل وما يتعلق بآثار القبض والتخلية ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏قبض‏)‏‏.‏

مواطن البحث

6 - بحث الفقهاء التخلية في عقد البيع في بحث كيفية تسليم المبيع، وفي السلم والرهن والهبة وغيرها من العقود والتصرفات التي يذكر فيها حكم القبض فيما إذا كان موضوعها عقاراً أو منقولاً، كما ذكرها بعضهم بمعنى الإفراج في بحث الجنايات وتخلية المحبوس بالكفالة‏.‏ وبحث بعض الفقهاء تخلية الطريق بمعنى كون الطريق خالياً من مانع، كعدو ونحوه، في كتاب الحج‏.‏

تخميس

التعريف

1- التخميس في اللغة‏:‏ جعل الشيء خمسة أخماس، واشتهر استعمال هذا اللفظ عند الفقهاء في أخذ خمس الغنائم‏.‏

الحكم الإجمالي

أ - تخميس الغنيمة‏:‏

2 - يجب على الإمام تخميس الغنيمة وتوزيع الأربعة الأخماس على الغانمين، بعد إخراج الخمس، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعْلَمُوا أَنّما غَنِمْتُم منْ شَيءٍ فَأَنَّ لله خُمُسَه ولِلرَسُولِ ولِذِيْ القُرْبَى واليَتَامَى والمَسَاكِينِ وابنِ السَبِيْل‏}‏، ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في أن ما يعتبر غنيمة يخمس‏.‏ وأما ما حكاه ابن كج وجهاً عند الشافعية من عدم تخميس الغنيمة إذا شرطه الإمام لضرورة، فقد قال عنه النووي‏:‏ شاذ وباطل‏.‏

وللفقهاء فيما يعتبر غنيمة وما لا يعتبر، ومصرف خمس الغنيمة، وكيفية قسمة الأربعة أخماس، وشروط من يستحقها خلاف وتفصيل ينظر في‏:‏ ‏(‏غنيمة‏)‏‏.‏

ب - تخميس الفيء‏:‏

3 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة - وهو ظاهر مذهب الحنابلة - إلى أنّ الفيء لا يخمّس، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَما أَفَاءَ اللّهُ على رَسُولِه منهم فَمَا أَوجَفْتُم عليه مِنْ خَيْلٍ ولا رِكَابٍ‏}‏ فجعله كلّه لجميع المسلمين‏.‏ قال عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية‏:‏‏"‏ استوعبت المسلمين، ولئن عشت ليأتينّ الرّاعي - وهو بسرو حمير - نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه ‏"‏‏.‏

ويرى الشّافعيّة والخرقيّ من الحنابلة - وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد - تخميس الفيء، وصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة‏.‏

وقال القاضي من الحنابلة‏:‏ إنّ الفيء لأهل الجهاد خاصّةً دون غيرهم من الأعراب ومن لا يعدّ نفسه للجهاد، لأنّ ذلك كان للنّبيّ صلى الله عليه وسلم لحصول النّصرة به، فلمّا مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك، وهم المقاتلة دون غيرهم‏.‏

وللفقهاء في تعريف الفيء ومصرفه تفاصيل تنظر في ‏(‏فيء‏)‏‏.‏

ج - تخميس الأرض المغنومة عنوةً‏:‏

4 - يرى الشّافعيّة - وهو قول للمالكيّة، ورواية للحنابلة ذكرها أبو الخطّاب - تخميس الأرض الّتي فتحت عنوةً، لأنّ الأرض غنيمة كسائر ما ظهر عليه الإمام من قليل أموال المشركين أو كثيره، وحكم اللّه عزّ وجلّ في الغنيمة أن تخمّس‏.‏

وذهب الحنفيّة - وهو قول للمالكيّة - إلى أنّ الإمام مخيّر بين تخميس الأرض الّتي فتحت عنوةً وتقسيمها بين الغانمين، كسائر المغنم بعد إخراج الخمس لجهاته، «كما فعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخيبر»، وبين إقرار أهلها عليها ووضع الجزية عليهم وضرب الخراج على أراضيهم، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصّحابة، وقال صاحب الدّرّ المختار‏:‏ الأوّل أولى عند حاجة الغانمين‏.‏

قال ابن عابدين‏:‏ إنّ ما فعله عمر إنّما فعله لأنّه كان هو الأصلح إذ ذاك، كما يعلم من القصّة، لا لكونه هو اللازم‏.‏ كيف وقد «قسّم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أرض خيبر بين الغانمين»، فعلم أنّ الإمام مخيّر في فعل ما هو الأصلح فيفعله‏.‏

وذهب المالكيّة على المشهور - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ الأرض المفتوحة عنوةً لا تخمّس ولا تقسم، بل توقف ويصرف خراجها في مصالح المسلمين، لأنّ الأئمّة بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقسموا أرضاً افتتحوها‏.‏

والمذهب عند الحنابلة أنّ الإمام يخيّر في الأرض المغنومة عنوةً، بين قسمتها كمنقول، وبين وقفها على المسلمين‏.‏ قال ابن تيميّة‏:‏ إذا قسّم الإمام الأرض بين الغانمين، فمقتضى كلام المجد وغيره‏:‏ أنّه يخمّسها حيث قالوا ‏"‏ كالمنقول ‏"‏ قال‏:‏ وعموم كلام أحمد والقاضي وقصّة خيبر، تدلّ على أنّها لا تخمّس، لأنّها فيء وليست بغنيمة‏.‏

د - تخميس السَّلَب‏:‏

5 - إنّ السّلب لا يخمّس، سواء أقال الإمام‏:‏ من قتل قتيلاً فله سلبه، أم لم يقله‏.‏ لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في السّلب للقاتل، ولم يخمّس السّلب»‏.‏ وبهذا قال الشّافعيّة على المشهور، والحنابلة، وهو قول الأوزاعيّ واللّيث وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ للإمام تنفيل السّلب قبل حصول الغنيمة في يد الغانمين، ولا خمس فيما ينفّل، لأنّ الخمس إنّما يجب في غنيمة مشتركة بين الغانمين، والنّفل ما أخلصه الإمام لصاحبه وقطع شركة الأغيار عنه، فلا يجب فيه الخمس‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ السّلب من جملة النّفل، يستحقّه كلّ من قتل قتيلاً بعد قول الإمام‏:‏ من قتل قتيلاً فله سلبه، ولا يعطيه الإمام إلاّ من الخمس على حسب اجتهاده، لأنّ النّفل لا يكون إلاّ من الخمس، أي لا من الأربعة الأخماس، فكذا السّلب‏.‏ أمّا إذا لم يجعل الإمام السّلب للقاتل، فيرى الحنفيّة والمالكيّة - وهو قول الثّوريّ، ورواية عن أحمد - أنّ القاتل لا يستحقّ سلب المقتول في هذه الحالة، فهو من جملة الغنيمة، بمعنى أنّ السّلب يخمّس، فيدفع خمسه لأهل الخمس، ثمّ يقسم باقيه كسائر المغنم، القاتل وغيره في ذلك سواء‏.‏

وهناك قول آخر للشّافعيّة يقابل المشهور، بتخميس السّلب ودفع خمسه لأهل الخمس باقيه للقاتل، ثمّ تقسيم باقي الغنيمة‏.‏ وللفقهاء في تعريف السّلب وشروط استحقاقه تفاصيل يرجع إليها في ‏(‏تنفيل، وسلب، وغنيمة‏)‏‏.‏

هـ – تخميس الرّكاز‏:‏

6 - لا خلاف بين الفقهاء في تخميس الرّكاز بشروط ذكروها، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الرِّكاز الخمس» ولأنّه مال كافر مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة‏.‏ وفي تعريف الرِّكاز وأنواعه وحكم كلّ نوع وشروط إخراج الخمس منه ومصرفه خلاف وتفصيل موطنه ‏(‏ركاز، وزكاة‏)‏‏.‏

تَخْمين

انظر‏:‏ خَرْص‏.‏

تخنّث

التّعريف‏:‏

1 - التّخنّث في اللّغة بمعنى‏:‏ التّثنّي والتّكسّر، وتَخَنَّث الرّجل إذا فعل فعل المُخَنَّث‏.‏

وخنّث الرّجل كلامه‏:‏ إذا شبّهه بكلام النّساء ليناً ورخامةً‏.‏

والتّخنّث اصطلاحاً كما يؤخذ من تعريف ابن عابدين للمخنّث‏:‏ هو التّزيّي بزيّ النّساء والتّشبّه بهنّ في تليين الكلام عن اختيار، أو الفعل المنكر‏.‏ وقال صاحب الدّرّ‏:‏ المخنّث بالفتح من يفعل الرّديء‏.‏ وأمّا بالكسر فالمتكسّر المتليّن في أعضائه وكلامه وخلقه‏.‏ ويفهم من القليوبيّ أنّه لا فرق بين الفتح والكسر في المعنى، فهو عنده المتشبّه بحركات النّساء‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - يحرم على الرّجال التّخنّث والتّشبّه بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء، وكذلك في الكلام والمشي، لما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال‏:‏ «لعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم المخنّثين من الرّجال والمترجِّلات من النّساء» وفي رواية أخرى‏:‏

«لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال» قال ابن حجر في الفتح‏:‏ والنّهي مختصّ بمن تعمّد ذلك، وأمّا من كان أصل خلقته، فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ، ولا سيّما إذا بدا منه ما يدلّ على الرّضا به، وأمّا إطلاق من قال‏:‏ إنّ المخنّث خلقةً لا يتّجه عليه الذّمّ، فمحمول على ما إذا لم يقدر على ترك التّثنّي والتّكسّر في المشي والكلام بعد تعاطيه المعالجة لترك ذلك‏.‏

إمامة المخنّث

3 - المخنّث بالخلقة، وهو من يكون في كلامه لين وفي أعضائه تكسّر خلقةً، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة لا يعتبر فاسقاً، ولا يدخله الذّمّ واللّعنة الواردة في الأحاديث، فتصحّ إمامته، لكنّه يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج، فإذا لم يقدر على تركه فليس عليه لوم‏.‏ أمّا المتخلّق بخلق النّساء حركةً وهيئةً، والّذي يتشبّه بهنّ في تليين الكلام وتكسّر الأعضاء عمداً، فإنّ ذلك عادة قبيحة ومعصية ويعتبر فاعلها آثماً وفاسقاً‏.‏

والفاسق تكره إمامته عند الحنفيّة والشّافعيّة، وهو رواية عند المالكيّة‏.‏

وقال الحنابلة، والمالكيّة في رواية أخرى، ببطلان إمامة الفاسق، كما هو مبيّن في مصطلح‏:‏ ‏(‏إمامة‏)‏‏.‏ ونقل البخاريّ عن الزّهريّ قوله‏:‏ لا نرى أن يصلّى خلف المخنّث إلاّ من ضرورة لا بدّ منها‏.‏

شهادة المخنّث

4 - صرّح الحنفيّة أنّ المخنّث الّذي لا تقبل شهادته هو الّذي في كلامه لين وتكسّر، إذا كان يتعمّد ذلك تشبّهاً بالنّساء‏.‏ وأمّا إذا كان في كلامه لين، وفي أعضائه تكسّر خلقةً، ولم يشتهر بشيء من الأفعال الرّديئة، فهو عدل مقبول الشّهادة‏.‏

واعتبر الشّافعيّة والحنابلة التّشبّه بالنّساء محرّماً تردّ به الشّهادة، ولا يخفى أنّ المراد بالتّشبّه التّعمّد، لا المشابهة الّتي تأتي طبعاً‏.‏

واعتبر المالكيّة المجون ممّا تردّ به الشّهادة، ومن المجون التّخنّث‏.‏

وعليه تكون المذاهب متّفقةً في التّفصيل الّذي أورده الحنفيّة، وتفصيله في ‏(‏شهادة‏)‏‏.‏

نظر المخنّث للنّساء

5 - المخنّث بالمعنى المتقدّم، والّذي له أرب في النّساء، لا خلاف في حرمة اطّلاعه على النّساء ونظره إليهنّ، لأنّه فحل فاسق - كما قال ابن عابدين‏.‏

أمّا إذا كان مخنّثاً بالخلقة، ولا إرب له في النّساء، فقد صرّح المالكيّة والحنابلة وبعض الحنفيّة بأنّه يرخّص بترك مثله مع النّساء، ولا بأس بنظره إليهنّ، استدلالاً بقوله تعالى فيمن يحلّ لهم النّظر إلى النّساء، ويحلّ للنّساء الظّهور أمامهم متزيّنات، حيث عدّ منهم أمثال هؤلاء، وهو ‏{‏أو التَّابِعينَ غَيْرِ أُولي الإِرْبَةِ من الرِّجَالِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة وأكثر الحنفيّة إلى أنّ المخنّث - ولو كان لا إرب له في النّساء - لا يجوز نظره إلى النّساء، وحكمه في هذا كالفحل‏:‏ استدلالاً بحديث «لا يَدخلنَّ هؤلاءِ عليكنَّ»‏.‏

عقوبة المخنّث

6 - المخنّث بالاختيار من غير ارتكاب الفعل القبيح معصية لا حدّ فيها ولا كفّارةً، فعقوبته عقوبة تعزيريّة تناسب حالة المجرم وشدّة الجرم‏.‏ وقد ورد «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم عزّر المخنّثين بالنّفي، فأمر بإخراجهم من المدينة، وقال‏:‏ أخرجوهم من بيوتكم» وكذلك فعل الصّحابة من بعده‏.‏ أمّا إن صدر منه مع تخنّثه تمكين الغير من فعل الفاحشة به، فقد اختلف في عقوبته، فذهب كثير من الفقهاء إلى أنّه تطبّق عليه عقوبة الزّنى‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّ عقوبته تعزيريّة قد تصل إلى القتل أو الإحراق أو الرّمي من شاهق جبل مع التّنكيس، لأنّ المنقول عن الصّحابة اختلافهم في هذه العقوبة، ويراجع في هذا مصطلح‏:‏‏(‏حدّ عقوبة، تعزير، ولواط‏)‏‏.‏

مواطن البحث

7 - يذكر الفقهاء أحكام التّخنّث في مباحث خيار العيب إذا كان العبد المبيع مخنّثاً، ويذكرونها في بحث الشّهادة، والنّكاح، والنّظر إلى المرأة الأجنبيّة، وفي مسائل اللّباس والزّينة وأبواب الحظر والإباحة ونحوها‏.‏

تخويف

التّعريف

1 - التّخويف مصدر من باب التّفعيل، ومعناه في اللّغة‏:‏ جعل الشّخص يخاف، أو جعله بحالة يخاف النّاس‏.‏ يقال‏:‏ خوّفه تخويفاً‏:‏ أي جعله يخاف، أو صيّره بحال يخافه النّاس‏.‏ وفي التّنزيل العزيز‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَانُ يُخوِّفُ أَوْلِياءَه‏}‏ أي يجعلكم تخافون أولياءه، وقال ثعلب‏:‏ معناه يخوّفكم بأوليائه‏.‏

ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الإنذار‏:‏

2 - الإنذار هو‏:‏ التّخويف مع إعلام موضع المخافة‏.‏ فإذا خوّف الإنسان غيره وأعلمه حال ما يخوّفه به، فقد أنذره‏.‏ فالإنذار أخصّ من التّخويف‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

ما يكون التّخويف به إكراهاً‏:‏

أ - التّخويف بالقتل والضّرب والحبس‏:‏

3 - يرى الحنفيّة والمالكيّة - وهو رواية عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة - أنّ الإكراه يحصل بتخويف بقتل أو ضرب شديد أو حبس طويل‏.‏

أمّا التّخويف بالضّرب والحبس اليسيرين فيختلف باختلاف طبقات النّاس وأحوالهم، فالتّخويف بضرب سوط أو حبس يوم في حقّ من لا يبالي ليس بإكراه، إلاّ أنّ التّخويف بهما يعتبر إكراهاً في حقّ ذي جاه يعلم أنّه يستضرّ بهما، كما يتضرّر واحد من أوساط النّاس بالضّرب الشّديد، وذلك كالقاضي وعظيم البلد، فإنّ مطلق القيد والحبس إكراه في حقّه‏.‏ وقال القاضي من الحنابلة، وهو وجه عند الشّافعيّة - حكاه الحنّاطيّ - أنّ الإكراه يحصل بالتّخويف بالقتل فقط‏.‏وهناك وجه آخر عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ التّخويف بالحبس لا يكون إكراهاً‏.‏

ب - التّخويف بأخذ المال وإتلافه‏:‏

4 - يرى الحنفيّة - وهو قول عند المالكيّة - حصول الإكراه بالتّخويف بأخذ المال، إذا قال متغلّب لرجل‏:‏ إمّا أن تبيعني هذه الدّار أو أدفعها إلى خصمك، فباعها منه، فهو بيع مكره‏.‏ ويشترط القهستانيّ من الحنفيّة لحصول الإكراه - كما يفهم من سياق عبارة ردّ المحتار - كون التّخويف بإتلاف كلّ المال‏.‏

وقال الشّافعيّة في وجه - وهو المذهب عند الحنابلة، وقول عند المالكيّة - إنّ الإكراه يحصل بأخذ المال الكثير بإتلافه‏.‏ وهناك وجه عند الشّافعيّة - وهو أحد الأقوال الثّلاثة للمالكيّة - أنّ التّخويف بأخذ المال ليس إكراهاً‏.‏

وللفقهاء تفاصيل في معنى الإكراه وأنواعه وشروطه وأثره وما يكون التّخويف به إكراهاً تنظر في مواطنها من كتب الفقه، وفي مصطلح ‏(‏إكراه‏)‏‏.‏

القتل تخويفاً

5 - لا خلاف بين الفقهاء في إمكان حصول القتل بالتّخويف‏.‏ كمن شهر سيفاً في وجه إنسان، أو دلاه من مكان شاهق فمات من روعته، وكمن صاح في وجه إنسان فجأةً فمات منها، وكمن رمى على شخص حيّةً فمات رعباً وما إلى ذلك‏.‏

وتنظر التّفاصيل المتعلّقة بأنواع القتل، وصفة كلّ نوع، وحكم القتل بالتّخويف في مختلف صوره في مصطلح ‏(‏قتل‏)‏‏.‏

الإجهاض بسبب التّخويف

6 - يرى الفقهاء وجوب الضّمان على من خوّف امرأةً فأجهضت بسبب التّخويف، على خلاف وتفصيل في الإجهاض المعاقب عليه، وعقوبة الإجهاض يرجع إليه في مصطلح ‏(‏إجهاض‏)‏‏.‏

تخيير

التّعريف

1 - التّخيير لغةً‏:‏ مصدر خيّر، يقال خيّرته بين الشّيئين، أي‏:‏ فوّضت إليه الخيار، وتخيّر الشّيء‏:‏ اختاره، والاختيار‏:‏ الاصطفاء وطلب خير الأمرين، وكذلك التّخيّر‏.‏ والاستخارة‏:‏ طلب الخيرة في الشّيء، وخار اللّه لك أي‏:‏ أعطاك ما هو خير لك‏.‏

والخيرة - بسكون الياء - الاسم منه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ لا يخرج استعمال الفقهاء لمصطلح ‏(‏تخيير‏)‏ عن معناه اللّغويّ‏.‏

فهو عندهم‏:‏ تفويض الأمر إلى اختيار المكلّف في انتقاء خصلة من خصال معيّنة شرعاً، ويوكل إليه تعيين أحدها، بشروط معلومة، كتخييره بين خصال الكفّارة، وتخييره بين القصاص والعفو، وتخييره في جنس ما يخرج في الزّكاة، وتخييره في فدية الحجّ، وتخييره في التّصرّف في الأسرى، وتخييره في حدّ المحارب، وغيرها من الأحكام‏.‏ والتّخيير بهذا دليل على سماحة الشّريعة ويسرها ومراعاتها لمصالح العباد فيما فوّضت إليهم اختياره، ممّا يجلب النّفع لهم ويدفع الضّرّ عنهم‏.‏

التّخيير عند الأصوليّين

2 - يتكلّم الأصوليّون على التّخيير في المباح، والمندوب، والواجب المخيّر، والواجب الموسّع، والنّهي على جهة التّخيير، والرّخصة‏.‏ وتفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإباحة‏:‏

3 - الإباحة في اللّغة‏:‏ الإحلال، يقال‏:‏ أبحتك الشّيء أي‏:‏ أحللته لك، والمباح خلاف المحظور‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ الإذن بالإتيان بالفعل حسب مشيئة الفاعل في حدود الإذن‏.‏

ب - التّفويض‏:‏

4 - التّفويض مصدر فوّض، يقال‏:‏ فوّض إليه الاختيار بين الشّيئين، فاختار أحدهما، ومنه تفويض الزّوج إلى زوجته طلاق نفسها أو بقاءها في عصمته‏.‏

أحكام التّخيير

للتّخيير أحكام خاصّة في الشّريعة الإسلاميّة نبيّنها فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ تخيير المصلّي في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع

5 - اتّفق الفقهاء على القول بتخيير المصلّي في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع، وهو الوقت الّذي وكّل إيقاع الصّلاة فيه لاختيار المصلّي، فإن شاء أوقعها في أوّله، أو في وسطه، أو في آخره، ولا إثم عليه فيما يختار‏.‏ وذهب بعض الفقهاء إلى القول بالإثم إن أخّر إلى وقت الكراهة في بعض الأوقات‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏أوقات الصّلاة‏)‏‏.‏

6- وتجب الصّلاة عند الجمهور بأوّل الوقت وجوباً موسّعاً، بمعنى أنّه لا يأثم بتأخيرها‏.‏ فلو أخّرها عازماً على فعلها من غير عذر، فمات في أثناء الوقت لم يأثم، لأنّه فعل ما يجوز له فعله، إذ هو بالخيار في أداء الصّلاة في أيّ جزء من وقتها، والموت ليس من فعله، فلا يأثم بالتّخيّر‏.‏ إلاّ أن يظنّ الموت، ولم يؤدّ حتّى مات، فإنّه يموت عاصياً‏.‏

وكذا إذا تخلّف ظنّه فلم يمت، لأنّ الموسّع صار في حقّه مضيّقاً، وانتفى بذلك اختياره‏.‏

فإن أخّرها غير عازم على الفعل أثم بالتّأخير، وإن أخّرها بحيث لم يبق من الوقت ما يتّسع لجميع الصّلاة أثم أيضاً‏.‏ وعند الحنفيّة أنّ الصّلاة لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن، والتّعيين للمصلّي باختياره من حيث الفعل‏.‏

فإذا شرع في أوّل الوقت يجب في ذلك الوقت، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره‏.‏

ومتى لم يعيّن بالفعل حتّى بقي من الوقت مقدار ما يسع الصّلاة يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلاً، حتّى يأثم بترك التّعيين، لأنّه لا خيار له في غيره‏.‏

7- ودليل التّخيير في أداء الصّلاة في الوقت الموسّع حديث جبريل - عليه السلام - الّذي يرويه ابن عبّاس - رضي الله عنهما - «عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أَمَّنِي جبريل عند البيت مرّتين، فصلّى الظّهر في الأولى منهما حين كان الفيء مثل الشّراك، ثمّ صلّى العصر حين كان كلّ شيء مثل ظلّه، ثمّ صلّى المغرب حين وجبت الشّمس وأفطر الصّائم، ثمّ صلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ صلّى الفجر حين برق الفجر وحرم الطّعام على الصّائم، وصلّى المرّة الثّانية الظّهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله، لوقت العصر بالأمس، ثمّ صلّى العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثليه، ثمّ صلّى المغرب لوقته الأوّل، ثمّ صلّى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث اللّيل، ثمّ صلّى الصّبح حين أسفرت الأرض، ثمّ التفت إليّ جبريل وقال‏:‏ يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين»‏.‏

وفي حديث بريدة عن مسلم‏:‏ «وقت صلاتكم بين ما رأيتم»‏.‏

ثانياً‏:‏ التّخيير في نوع ما يجب إخراجه في الزّكاة

8 - اتّفق الفقهاء على أنّ البقر إذا بلغت مائةً وعشرين يخيّر في أخذ زكاتها بين ثلاث مسنّات أو أربع تبيعات‏.‏ والخيار في ذلك للسّاعي عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وللمالك عند الحنفيّة، وهكذا كلّما أمكن أداء الواجب من الأتبعة أو المسنّات‏.‏

أمّا الإبل فإذا بلغت مائةً وإحدى وعشرين، فعند المالكيّة زكاتها حقّتان أو ثلاث بنات لبون، والخيار فيه للسّاعي‏.‏

فإن اختار السّاعي أحد الصّنفين، وكان عند ربّ المال من الصّنف الآخر أفضل أجزأه ما أخذه السّاعي، ولا يستحبّ له إخراج شيء زائد‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة زكاتها ثلاث بنات لبون بلا تخيير‏.‏ وعند الحنفيّة تستأنف الفريضة، وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏زكاة‏)‏‏.‏

9- أمّا إذا ضمّت أنواعاً مختلفةً من جنس واحد لتكميل نصاب السّائمة، كأن تضمّ العراب إلى البخاتيّ من الإبل، والجواميس إلى البقر، والضّأن إلى المعز من الغنم‏:‏ فعند المالكيّة يخيّر السّاعي في الأخذ من أيّها شاء إذا تساوى النّوعان المضمومان، وإذا لم يتساويا أخذ من الأكثر إذ الحكم للأغلب‏.‏ وعند الشّافعيّة ثلاثة أقوال في المذهب‏:‏

أحدها‏:‏ أنّه يؤخذ من الأغلب، فإن استويا يؤخذ من الأغبط للمساكين على المذهب، وذلك باعتبار القيمة، كاجتماع الحقاق وبنات اللّبون‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ أنّه يؤخذ من الأعلى، كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض‏.‏

والقول الثّالث‏:‏ أنّه يؤخذ من الوسط كما في الثّمار، وهو مذهب الحنفيّة‏.‏

وعند الحنابلة أنّه يؤخذ من أحدهما على قدر قيمة المالين المزكّيين، فإذا كان النّوعان سواءً، وقيمة المخرج من أحدهما اثنا عشر، والمخرج من الآخر خمسة عشر، أخرج من أحدهما ما قيمته ثلاثة عشر ونصف‏.‏

10 - فإن اتّفق في نصاب فرضان، كالمائتين من الإبل، وهي نصاب خمس بنات لبون ونصاب أربع حقاق، فيخيّر بينهما، فإن شاء أخرج أربع حقاق، وإن شاء أخرج خمس بنات لبون، لحديث‏:‏ «فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون»، ولأنّه وجد ما يقتضي إخراج كلّ نوع منهما‏.‏

والخيار في هذا للمالك، وهذا باتّفاق الفقهاء، وللشّافعيّ في القديم أنّه تجب أربع حقاق، لأنّه إذا أمكن تغيّر الفرض بالسّنّ، لم يغيّر بالعدد‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّخيير في فدية الجناية على الإحرام في الحج

11 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم إذا جنى على إحرامه بأن حلق شعره، أو قلّم أظفاره، أو تطيّب، أو لبس مخيطاً، أنّه تجب عليه الفدية وهي على التّخيير بين خصال ثلاث‏:‏ فإمّا أن يهدي شاةً، أو يطعم ستّة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيّام‏.‏

وتفصيل موجب الفدية تقدّم في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

12 - ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كانَ مِنْكم مَرِيْضَاً أو به أَذًى منْ رَأْسِه فَفِدْيَةٌ منْ صِيَامٍ أو صَدَقَةٍ أو نُسُك‏}‏‏.‏ ولحديث كعب بن عجرة - رضي الله عنه - «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ لعلّك آذاك هوامّ رأسك، قال‏:‏ نعم يا رسول اللّه، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ احلق رأسك وصم ثلاثةً، أو أطعم ستّة مساكين، أو انسك شاةً»‏.‏

وقصر الحنفيّة التّخيير في الفدية على أصحاب الأعذار، أمّا غير المعذور فيفدي بذبح شاة، ولا خيار له في غيرها‏.‏ ولم يفرّق الجمهور بينهما‏.‏

ودليل الحنفيّة على ما ذهبوا إليه، أنّ الآية واردة في المعذور بدليل حديث كعب بن عجرة المفسّرة للآية، فجاء في رواية‏:‏ «قال‏:‏ حملت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال‏:‏ ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى‏.‏ أتجد شاةً ‏؟‏ فقلت‏:‏ لا، فقال‏:‏ صم ثلاثة أيّام، أو أطعم ستّة مساكين لكلّ مسكين نصف صاع»‏.‏ فدلّ على أنّه كان معذوراً وحملت الآية عليه‏.‏

ودليل الجمهور ما تقدّم في الآية والحديث من التّخيير بلفظ ‏"‏ أو ‏"‏‏.‏

13 - والحكم ثابت في غير المعذور بطريق التّنبيه تبعاً للمعذور، لأنّ كلّ كفّارة ثبت التّخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه‏.‏

14 - كما يثبت التّخيير في كفّارة قتل الصّيد في الحرم‏.‏

ويخيّر فيه قاتله بين ثلاث خصال‏:‏ فإمّا أن يهدي مثل ما قتله من النَّعَم لفقراء الحرم، إن كان الصّيد له مثل من الإبل أو البقر أو الغنم‏.‏ أو أن يقوّمه بالمال، ويقوّم المال طعاماً، ويتصدّق بالطّعام على الفقراء‏.‏ وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، أمّا المالكيّة فذهبوا إلى أنّ الصّيد يقوّم ابتداءً بالطّعام، ولو قوّمه بالمال ثمّ اشترى به طعاماً أجزأه‏.‏ والخصلة الثّالثة الّتي يخيّر فيها قاتل الصّيد أن يصوم عن كلّ مدّ من الطّعام يوماً‏.‏ ودليل الاتّفاق على التّخيير في كفّارة صيد الحرم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَدْيَاً بَالِغَ الكعبَةِ أو كفّارةٌ طعامُ مساكين أو عَدْلُ ذلك صيامَاً‏}‏ و‏"‏ أو ‏"‏ تفيد التّخيير‏.‏

رابعاً‏:‏ من أسلم على أكثر من أربع نسوة

15 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة ومحمّد بن الحسن إلى تخيير من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، أو أختان، أو من لا يحلّ له الجمع بينهنّ بنسب أو رضاع، فيخيّر في إمساك من أراد منهنّ، بأن يمسك أربعاً أو أقلّ، أو أن يمسك إحدى الأختين، وهكذا‏.‏ ويفسخ نكاحه ممّن سوى من اختارهنّ‏.‏ وذلك لحديث قيس بن الحارث قال‏:‏ «أسلمتُ وتحتي ثمان نسوة، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك، فقال‏:‏ اختر منهنّ أربعاً»‏.‏ ولحديث محمّد بن سويد الثّقفيّ‏:‏ «أنّ غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فأسلمن معه، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يختار منهنّ أربعاً»‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّ الكافر إذا أسلم وتحته خمس نسوة فصاعداً أو أختان بطل نكاحهنّ، إن كان قد تزوّجهنّ بعقد واحد، فإن كان قد رتّب فالآخر هو الّذي يبطل‏.‏ ودليلهم على ما ذهبوا إليه أنّ هذه العقود فاسدة، ولكنّا لا نتعرّض لهم، لأنّا أمرنا بتركهم وما يدينون، فإذا أسلموا بطلت الأنكحة الفاسدة‏.‏

16 - ومن أحكام التّخيير في هذا الباب وآثاره‏:‏ أنّ الاختيار يحصل باللّفظ الصّريح كأن يقول‏:‏ اخترت نكاح هؤلاء، أو اخترت إمساكهنّ، كما يحصل بأن يطلّق بعضهنّ، لأنّ الطّلاق لا يكون إلاّ لزوجة‏.‏ كما يحصل إذا وطئها، وإذا وطئ الكلّ يتعيّن الأربع الأول للإمساك، وما عداهنّ يتعيّن للتّرك‏.‏

وخالف الشّافعيّة في اعتبار الوطء اختياراً، لأنّ الاختيار رهناً كالابتداء، ولا يصحّ ابتداء النّكاح واستدامته إلاّ بالقول‏.‏ وإذا لم يختر أجبر على الاختيار بالحبس أو بالتّعزير بالضّرب وغيره، لأنّ الاختيار حقّ عليه، فألزم بالخروج منه إن امتنع كسائر الحقوق‏.‏

وعن ابن أبي هريرة من الشّافعيّة أنّه لا يضرب مع الحبس، بل يشدّد عليه الحبس، فإن أصرّ عزّر ثانياً وثالثاً إلى أن يختار‏.‏ وإذا حبس لا يعزّر على الفور‏.‏ فلعلّه يؤخّر ليفكّر فيتخيّر بعد رويّة وإمعان نظر‏.‏ ومدّة الإمهال ثلاثة أيّام‏.‏ وليس للحاكم أن يختار على الممتنع، لأنّ الحقّ لغير معيّن، وهو اختيار رغبة، فكان من حقّ الزّوج‏.‏

ومن الأحكام كذلك‏:‏ أنّه إذا أسلم بعض زوجاته، وليس البواقي كتابيّات، فينحصر تخييره في المسلمات فقط، وليس له أن يختار من لم يسلمن، لعدم حلّهنّ له‏.‏

ومن الأحكام أنّه يلزم الزّوج النّفقة لجميعهنّ في مدّة التّخيير إلى أن يختار، لأنّهنّ محبوسات لأجله، وهنّ في حكم الزّوجات‏.‏

خامساً‏:‏ تخيير الطّفل في الحضانة

17 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى تخيير المحضون بين أبيه وأمّه إذا تنازعا فيه على ما يأتي من التّفصيل، فيلحق بأيّهما اختار‏.‏ فإن اتّفقا على أن يكون المحضون عند أحدهما جاز، وعند الشّافعيّة يبقى التّخيير وإن أسقط أحدهما حقّه قبل التّخيير - خلافاً للماورديّ والرّويانيّ - ولا فرق في التّخيير بين الذّكر والأنثى‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ يخيّر الغلام إذا بلغ سبع سنين عاقلاً، لأنّها السّنّ الّتي أمر الشّرع فيها بمخاطبته بالصّلاة‏.‏ وحدّه الشّافعيّة بالتّمييز بأن يأكل وحده، ويشرب وحده، ولم يعتبروا بلوغه السّابعة حدّاً، فلو جاوز السّبع بلا تمييز بقي عند أمّه، ولا فرق في هذا بين الذّكر والأنثى‏.‏ وهذا يخالف في ظاهره ما ورد من أمره بالصّلاة إذا بلغ سبع سنين، وعدم أمره بها قبل أن يبلغها وإن ميّز‏.‏ والفرق بينهما أنّ في أمره بالصّلاة قبل السّبع مشقّةً، فخفّف عنه ذلك‏.‏ بخلاف الحضانة، لأنّ المدار في التّخيير على معرفة ما فيه صلاح نفسه وعدمه، فيقيّد بالتّمييز، وإن لم يجاوز السّبع‏.‏

وفرّق الحنابلة بين الذّكر والأنثى، فيخيّر الصّبيّ إذا بلغ سبع سنين، أمّا البنت فتكون في حضانة والدها إذا تمّ لها سبع سنين، حتّى سنّ البلوغ، وبعد البلوغ تكون عند الأب أيضاً إلى الزّفاف وجوباً، ولو تبرّعت الأمّ بحضانتها، لأنّ الغرض من الحضانة الحفظ، والأب أحفظ لها‏.‏ ولأنّها تخطب منه، فوجب أن تكون تحت نظره‏.‏

18 - والتّخيير في الحضانة مشروط بالسّلامة من الفساد، فإذا علم أنّه يختار أحدهما ليمكّنه من الفساد، ويكره الآخر لما سيلزمه به من أدب، لم يعمل بمقتضى اختياره، لأنّه مبنيّ على الشّهوة، فيكون فيه إضاعة له‏.‏

كما أنّه مشروط بأن يظهر للحاكم معرفته بأسباب الاختيار‏.‏

19 - ودليل التّخيير ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال‏:‏ «جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إنّ زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة ونفعني، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا أبوك وهذه أمّك، فخذ بيد أيّهما شئت، فأخذ بيد أمّه، فانطلقت به» وما ورد من قضاء عمر بذلك‏.‏

20 - ومن أحكام التّخيير‏:‏ أنّه لو امتنع المختار من كفالة المحضون كفله الآخر، فإن رجع الممتنع منها أعيد التّخيير‏.‏ وإن امتنعا أي الأب والأمّ، خيّر بين الجدّ والجدّة، وإلاّ أجبر عليها من تلزمه نفقته، لأنّها من جملة الكفالة‏.‏

21 - ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز الّذي لا أب له يخيّر بين أمّ وإن علت وجدّ وإن علا، عند فقد من هو أقرب منه، أو قيام مانع به لوجود الولادة في الكلّ‏.‏

22 - ومن أحكامه كذلك أنّ المميّز إن اختار أحد الأبوين، ثمّ اختار الآخر حوّل إليه، لأنّه قد يظهر الأمر على خلاف ما ظنّه، أو يتغيّر حال من اختاره أوّلاً‏.‏

إلاّ إذا ظهر أنّ سبب اختياره للآخر قلّة عقله، فيجعل عند أمّه وإن بلغ، كما قبل التّمييز‏.‏

23 - ومن الأحكام كذلك‏:‏ أنّ المحضون إذا اختار أبويه معاً أقرع بينهما لانتفاء المرجّح‏.‏ أمّا إذا لم يختر واحداً منهما، فعند الشّافعيّة الأمّ أولى، لأنّها أشفق واستصحاباً لما كان عليه‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ يقرع بينهما، لأنّه لا أولويّة حينئذ لأحدهما، وهو قول للشّافعيّة‏.‏ فإذا اختار المحضون غير من قدّم بالقرعة ردّ إليه، كما لو اختاره ابتداءً‏.‏

ولا يخيّر الغلام إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة، لأنّه غير أهل فيكون وجوده كعدمه، ويتعيّن أن يكون الغلام عند الآخر‏.‏ وإن اختار ابن سبع أباه ثمّ زال عقله ردّ إلى الأمّ، لحاجته إلى من يتعهّده كالصّغير، وبطل اختياره لأنّه لا حكم لكلامه‏.‏

أمّا الحنفيّة والمالكيّة فذهبوا إلى أنّه لا خيار للصّغير ذكراً كان أو أنثى، وأنّ الأمّ أحقّ بهما‏.‏ وعند الحنفيّة يبقى الصّبيّ عند أمّه إلى أن يستغني بنفسه، بأن يأكل وحده ويشرب وحده ويستنجي وحده ويلبس وحده‏.‏ وعند المالكيّة إلى البلوغ في المشهور من المذهب، ويقابل المشهور ما قاله ابن شعبان‏:‏ إنّ أمد الحضانة في الذّكر حتّى يبلغ عاقلاً غير زمن‏.‏

أمّا البنت فعند الحنفيّة تبقى حضانة أمّها إلى أن تحيض‏.‏ وبعد البلوغ تحتاج إلى التّحصين والحفظ والأب فيه أقوى‏.‏ وعن محمّد بن الحسن أنّ البنت تدفع إلى الأب إذا بلغت حدّ الشّهوة، لتحقّق الحاجة إلى الصّيانة‏.‏ أمّا عند المالكيّة فتبقى عند أمّها إلى أن يدخل بها زوجها، لأنّها تحتاج إلى معرفة آداب النّساء، والمرأة على ذلك أقدر‏.‏

24 - والعلّة في عدم تخيير المحضون عند الحنفيّة والمالكيّة هي‏:‏ قصور عقله الدّاعي إلى قصور اختياره‏.‏ فقد يختار من عنده الدّعة والتّخلية بينه وبين اللّعب، فلا يتحقّق المقصود من الحضانة وهو النّظر في مصالح المحضون‏.‏

وما ورد من أحاديث تفيد تخيير الطّفل، جاء فيها أنّ اختياره كان لدعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يهديه إلى الأصلح‏.‏ كما جاء في حديث «رافع بن سنان أنّه أسلم، وأبت امرأته أن تسلم فقالت‏:‏ ابنتي وهي فطيم، وقال رافع‏:‏ ابنتي‏.‏ فأقعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم الأمّ ناحيةً، والأب ناحيةً، وأقعد الصّبيّة ناحيةً وقال لهما‏:‏ ادعواها فمالت الصّبيّة إلى أمّها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏‏"‏ اللّهمّ اهدها ‏"‏ فمالت إلى أبيها فأخذها»‏.‏

وجاء في رواية أنّه ابنهما وليست بنتهما، ولعلّهما قضيّتان مختلفتان‏.‏

كما يحمل ما ورد في تخيير الغلام على أنّه كان بالغاً، بدليل أنّه كان يستسقي من بئر أبي عنبة، ومن يكون دون البلوغ لا يرسل إلى الآبار للخوف عليه من السّقوط‏.‏

سادساً‏:‏ تخيير الإمام في الأسرى

25 - اتّفق الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة على تخيير إمام المسلمين في أسرى الحرب بين خمس خصال‏:‏ فإمّا أن يسترقّهم، وإمّا أن يقتلهم، وإمّا أن يأخذ الجزية منهم، وإمّا أن يطلب الفدية مقابل إعتاقهم سواء بالمال، أو بمفاداتهم بأسرى المسلمين الّذين في أيدي الكفّار، وإمّا أن يمنّ عليهم فيعتقهم‏.‏ واستثنى الحنفيّة الخصلتين الأخيرتين، وهما الفداء والمنّ، فقالوا بعدم جواز المنّ، وعدم جواز المفاداة بالمال في المشهور من المذهب، أمّا المفاداة بأسرى المسلمين فلا يجوز في قول لأبي حنيفة، وجائز في قول الصّاحبين، وهو قول لأبي حنيفة كذلك‏.‏ وفي المسألة تفصيلات يرجع إليها في بحث ‏(‏أسرى‏)‏‏.‏

ودليل جواز أخذ الجزية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عن يَدٍ وهم صَاغِرُون‏}‏‏.‏

وكذلك ما جاء أنّ عمر رضي الله عنه فعل ذلك في أهل السّواد‏.‏

26 - وما تقدّم من تخيير الإمام في الأسرى محلّه في الرّجال البالغين، أمّا النّساء والصّبيان فلا خيار فيهم، ولا يحكم فيهم إلاّ بالاسترقاق، وحكمهم حكم سائر أموال الغنيمة‏.‏ كما في سبايا هوازن وخيبر وبني المصطلق‏.‏ وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنّه «نهى عن قتل النّساء والولدان»‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ للإمام الخيرة فيهم بين الاسترقاق والفداء‏.‏ 27 - وتخيير الإمام بين هذه الخصال مقيّد بما يظهر له من المصلحة الرّاجحة في أحدها، فيختار الأصلح للمسلمين من بينها‏.‏ فإن كان الأسير ذا قوّة وشوكة فقتله هو المصلحة، وإن كان ضعيفاً صاحب مال كانت المصلحة في أخذ الفدية منه، وإن كان ممّن يرجى إسلامه فيمنّ عليه تقريباً وتأليفاً لقلبه على الإسلام‏.‏ وإن تردّد نظر الإمام ورأيه في اختيار الأصلح، فعند الحنابلة القتل أولى لما فيه من كفاية شرّهم‏.‏

وعند الشّافعيّة يحبسهم حتّى يظهر له الأصلح‏.‏

فالتّخيير في تصرّف الإمام في الأسرى مقيّد بالمصلحة بخلاف التّخيير في خصال الكفّارة، إذ هو تخيير مطلق أبيح للحانث بموجبه أن يختار أيّ خصلة دون النّظر إلى المصلحة‏.‏

28 - أمّا إذا اختار الإمام خصلةً بعد الاجتهاد وتقليب وجوه المصالح، ثمّ ظهر له بالاجتهاد أنّ المصلحة في غيرها، فقد قال ابن حجر في تحفة المحتاج‏:‏ الّذي يظهر لي في ذلك تفصيل لا بدّ منه أوّلاً‏:‏ فإن كانت رقّاً لم يجز له الرّجوع عنها مطلقاً، سواء استرقّهم لسبب أم لغير سبب، وذلك لأنّ أهل الخمس ملكوهم بمجرّد ضرب الرّقّ، فلم يملك إبطاله عليهم إلاّ برضا من دخلوا في ملكهم‏.‏ وإن اختار القتل جاز له الرّجوع عنه تغليباً لحقن الدّماء، كما في جواز رجوع المقرّ بالزّنى وسقوط القتل عنه، بل إنّ الرّجوع عن قتل الأسير أولى، لأنّه محض حقّ للّه تعالى، أمّا حدّ الزّنا ففيه شائبة حقّ آدميّ‏.‏

أمّا إذا كان ما اختاره الإمام أوّلاً هو المنّ أو الفداء فلا يرجع عنه باجتهاد آخر، لأنّه من قبيل نقض الاجتهاد بالاجتهاد من غير موجب، كما أنّ الحاكم إذا اجتهد في قضيّة فلا ينقض اجتهاده باجتهاد آخر‏.‏ أمّا إذا اختار أحدهما لسبب، ثمّ زال ذلك السّبب، وظهرت المصلحة في اختيار الثّاني لزمه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ثانياً، وليس هذا من قبيل نقض الاجتهاد بالاجتهاد، لأنّه انتقال إلى الاختيار الثّاني لزوال موجب الاختيار الأوّل‏.‏ ويشترط في الاسترقاق والفداء اللّفظ الدّالّ على اختيارهما، ولا يكفي مجرّد الفعل، لأنّه لا يدلّ عليه دلالةً صريحةً‏.‏ أمّا في غيرهما من الخصال، فيكفي الفعل لدلالته الصّريحة على اختيارها‏.‏

سابعاً‏:‏ تخيير الإمام في حدّ المحارب

29 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ حدّ المحارب يختلف باختلاف الجناية، فلكلّ جناية عقوبتها، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّمَا جَزَاءُ الّذينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ ورَسُولَه وَيَسْعَونَ في الأرضِ فَسَادَاً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِم وأَرْجُلُهم منْ خِلافٍ أو يُنْفَوا منْ الأرضِ ذلك لهم خِزْيٌ في الدّنيا ولهم في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ‏}‏‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإمام مخيّر في بعض جنايات المحارب دون بعضها على تفصيل عندهم‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ الإمام بالخيار في المحارب بين أربعة أمور‏:‏

أن يقتله بلا صلب، أو أن يصلبه مع القتل، أو أن ينفي الذّكر الحرّ البالغ العاقل في مكان بعيد ويسجن حتّى تظهر توبته أو يموت، أو أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى‏.‏

وهذه الأربعة في حقّ الرّجال، أمّا النّساء فلا يصلبن ولا ينفين، وحدّهنّ القتل أو القطع‏.‏ وتخيير الإمام بين هذه الأمور يكون على أساس المصلحة‏.‏

ثامناً‏:‏ تخيير ملتقط اللّقطة بعد التّعريف بها

30 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الملتقط مخيّر بين أن يتملّك ما التقطه وينتفع به، أو يتصدّق به، أو يحفظه أمانةً إلى أن يظهر صاحب اللّقطة فيدفعها إليه، وهذا بعد التّعريف بها‏.‏ وذهب الحنابلة والشّافعيّة في قول إلى أنّ الملتقط يملك ما التقطه حتماً - كالميراث - بمجرّد تمام التّعريف بها، على التّفصيل المذكور في مصطلح‏:‏ ‏(‏لقطة‏)‏‏.‏

وفي الأصحّ عند الشّافعيّة، وهو قول أبي الخطّاب من الحنابلة‏:‏ أنّه لا يملك اللّقطة حتّى يختار التّملّك بلفظ صريح أو كناية مع النّيّة، وفي وجه آخر عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه يملك بمجرّد النّيّة بعد التّعريف‏.‏ ودليل التّملّك والانتفاع بمجرّد التّعريف ما جاء في روايات الحديث عن زيد بن خالد الجهنيّ رضي الله عنه قال‏:‏ «جاء أعرابيّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عمّا يلتقطه فقال‏:‏ عرّفها سنةً، ثمّ اعرف عفاصها ووكاءها، فإن جاء أحد يخبرك بها، وإلاّ فاستنفقها» وفي أخرى‏:‏ «وإلاّ فهي كسبيل مالك» وفي لفظ‏:‏ «ثمّ كلها» وفي لفظ‏:‏

«فانتفع بها» وفي لفظ‏:‏ «فشأنك بها»

31 - أمّا دليل أنّه لا يتملّك حتّى يختار فما ورد في حديث زيد بن خالد الجهنيّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «فإن جاء صاحبها وإلاّ فشأنك بها» فجعله إلى اختياره، ولأنّه تملّك ببدل فاعتبر فيه اختيار التّملّك كالملك بالبيع‏.‏ وإنّما جاز للملتقط اختيار التّصدّق، لأنّ فيه إيصالاً للحقّ إلى المستحقّ، وهو واجب بقدر الإمكان، فإمّا أن يكون بإيصال العين لصاحبها، وإمّا أن يكون بإيصال العوض عند تعذّره، وهو الثّواب على اعتبار إجازة صاحب اللّقطة التّصدّق بها‏.‏ ولهذا كان له الخيار عند ظهوره بين إمضاء الصّدقة أو الرّجوع بالضّمان على الملتقط‏.‏ وفي المسألة تفصيلات أخرى تنظر في ‏(‏لقطة‏)‏‏.‏

تاسعاً‏:‏ التّخيير في كفّارة اليمين

32 - اتّفق الفقهاء على التّخيير في كفّارة اليمين بين أربع خصال‏:‏ إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فإن لم يجد ما يكفّر به من هذه الثّلاثة - بأن عجز عن الإطعام والكسوة والعتق - صام ثلاثة أيّام‏.‏

فهي كفّارة على التّخيير في الثّلاثة الأولى، وعلى التّرتيب بينها وبين الخصلة الرّابعة‏.‏ والأصل في التّخيير في كفّارة اليمين قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يُؤَاخِذُكُم اللّهُ بِاللَّغْوِ في أَيْمَانِكُم ولكنْ يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدْتُم الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُم أو كِسْوَتُهم أو تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏.‏ فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أيَّامٍ ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُم إذا حَلَفْتُم واحْفَظُوا أَيْمَانِكُم كذلك يُبَيِّنُ اللّهُ لكم آياتِه لعلَّكُم تَشْكُرُون‏}‏‏.‏

والمقصود بالتّخيير في كفّارة اليمين أنّ للمكفّر أن يأتي بأيّ خصلة شاء، وأن ينتقل عنها إلى غيرها بحسب ما يراه ويميل إليه وما يراه الأسهل في حقّه، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى ما خيّره إلاّ لطفاً به‏.‏ وهذا ما يفترق به التّخيير في كفّارة اليمين عن التّخيير في حدّ المحارب والتّصرّف بالأسرى حيث قيّدا بالمصلحة‏.‏

عاشراً‏:‏ التّخيير بين القصاص والدّية والعفو

33 - أجمع الفقهاء على أنّ وليّ الدّم مخيّر في الجناية على النّفس بين ثلاث خصال‏:‏ فإمّا أن يقتصّ من القاتل، أو يعفو عنه إلى الدّية أو بعضها، أو أن يصالحه على مال مقابل العفو، أو يعفو عنه مطلقاً‏.‏

ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلَى الحُرُّ بالحُرِّ والعَبْدُ بالعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ له منْ أَخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ ذلك تَخْفِيْفٌ منْ رَبِّكُم وَرَحْمَة‏}‏ الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ‏}‏ إلى قوله ‏{‏والجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ به فهو كَفَّارَةٌ له‏}‏ الآية‏:‏ أي كفّارة للعافي بصدقته على الجاني‏.‏ وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النَّظَرَين‏:‏ إمّا أن يودي، وإمّا أن يقاد»

وعن أنس - رضي الله عنه - قال‏:‏ «ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلاّ أمر فيه بالعفو»‏.‏ وفي الحديث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إنّكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرّجل من هذيل، وإنّي عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين‏:‏ إمّا أن يقتلوا، أو يأخذوا العقل»‏.‏

واختلف الفقهاء في توقّف تخيير وليّ الدّم في أخذ الدّية على رضا الجاني‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه لا يجوز أن يعفو وليّ الدّم إلى الدّية إلاّ برضا الجاني، وأنّه ليس لوليّ الدّم جبر الجاني على دفع الدّية إذا سلّم نفسه للقصاص‏.‏ وذهب الشّافعيّة في الأظهر، والحنابلة في المعتمد إلى أنّ موجب القتل العمد هو القود، وأنّ الدّية بدل عنه عند سقوطه‏.‏ فإذا عفا عن القصاص واختار الدّية وجبت دون توقّف على رضا الجاني‏.‏ وهو قول أشهب من المالكيّة‏.‏ وفي قول آخر للشّافعيّة، وهو رواية عند الحنابلة أنّ موجب القتل العمد هو القصاص أو الدّية أحدهما لا بعينه، ويتخيّر وليّ الدّم في تعيين أحدهما‏.‏

34 - أمّا دليل الحنفيّة والمالكيّة فيما ذهبوا إليه فهو ما ورد من نصوص توجب القصاص، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيُّها الّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عليكم القِصَاصُ في القَتْلى‏}‏ ممّا يعيّن القصاص‏.‏ فهو إخبار عن كون القصاص هو الواجب، وهذا يبطل القول بأنّ الدّية واجبة كذلك‏.‏ ولمّا كان القتل لا يقابل بالجمع بين القصاص والدّية، كان القصاص هو عين حقّ الوليّ، والدّية بدل حقّه، وليس لصاحب الحقّ أن يعدل من عين الحقّ إلى بدله من غير رضا من عليه الحقّ، ولهذا لا يجوز اختيار الدّية من غير رضا القاتل‏.‏

وأمّا دليل الشّافعيّة والحنابلة فهو ما تقدّم من أدلّة جواز العفو إلى الدّية، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏فَمَنْ عُفِيَ له منْ أخِيه شَيءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إليه بِإِحْسَانٍ‏}‏ فأوجب سبحانه على القاتل أداء الدّية إلى الوليّ مطلقاً عن شرط الرّضا، دفعاً للهلاك عن نفسه‏.‏

ولمّا كان المقصود من تشريع القصاص والدّية هو الزّجر، فكان ينبغي الجمع بينهما، كما في شرب خمر الذّمّيّ، إلاّ أنّه تعذّر الجمع، لأنّ الدّية بدل النّفس، وفي القصاص معنى البدليّة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ‏}‏ والباء تفيد البدليّة، فيؤدّي إلى الجمع بين البدلين، وهو غير جائز، فخيّر وليّ الدّم بينهما‏.‏